خلال الأزمة الأخيرة التي ضربت العالم، أثبت الاقتصاد الصيني مرونته الكبيرة، وقدرته على التكيف مع الظروف، والعودة مرة أخرى لتسجيل نسبة نمو مرتفعة - بعد الانهيار الذي حدث في" وول ستريت" - مما مكنه من أن يصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم في الوقت الراهن. والسؤال الذي يردده الكثير من خبراء الاقتصاد في العالم حالياً هو. هل سيستطيع الاقتصاد الصيني المحافظة على مرونته هذه لفترة طويلة، أم أن رياح الركود التي ستهب عليه عبر المحيط الهادي (قادمة من أميركا) سوف تؤدي إلى التأثير على تلك المرونة، وعلى تلك القدرة على العودة إلى أوضاع ما قبل الأزمة، وتقليص نسبة النمو الكبيرة لذلك الاقتصاد في نهاية المطاف؟ وإجابتي عن هذا السؤال هي أن الصين سوف تتمكن من عبور الأزمة الحالية من دون عناء، ومواصلة النمو، وأن ذلك لن يقتصر عليها فحسب إنما سيشمل كذلك اقتصادات ناهضة مثل الهند والبرازيل على سبيل المثال لا الحصر، ستتمكن هي الأخرى من إدامة نموها لسنوات طويلة قادمة. بيد أن فرصة الصين على وجه الخصوص سوف تكون أفضل من غيرها، خصوصاً إذا تمكنت من التواؤم مع التغييرات الهيكلية التي يمر بها اقتصادها، والتي تتم على مستويات مختلفة. أول هذا التغيرات، أن الصين تمر في الوقت الراهن بعملية" تحول في شريحة الدخل المتوسط" في أجزاء من البلاد، وهو ما يرجع لحقيقة أن "محركات النمو" السابقة، وعلى وجه الخصوص أصحاب المصانع المعتمدة على العمالة الرخيصة، الممتدة على طول الساحل الصيني، تختفي تدريجياً في الوقت الراهن، ويتم استبدالها بـ"محركات نمو أخرى". علاوة على ذلك، يحتاج المستهلكون المحليون في الصين، إلى زيادة الاستهلاك، كي يشكلوا عنصراً مهما في الاقتصاد، بما يتيح القدرة على تحقيق درجة أكبر من التكافؤ بين الإمكانيات الإنتاجية الهائلة للبلاد والطلب المحلي على ذلك الإنتاج. ثاني تلك التغييرات، أن الصين تمر الآن بمرحلة سوف تتطلب منها وضع المزيد من الدخول والأموال في أيدي القطاع الأُسري القادر على دفع عجلة النمو للأمام، وذلك من خلال العمل على زيادة القدرة الاستهلاكية لذلك القطاع، الذي يميل في الوقت الراهن للادخار تحسباً لتقلبات الزمن، وبسبب عدم وجود برامج للضمان الاجتماعي مثلما هو الحال في دول الغرب. ويعني هذا، ابتعاد السلطات التي تشرف على التخطيط عن المستويات العالية من الاستثمار في القطاع المؤسسي والقطاع العام، وهما القطاعان اللذان تتضاءل العوائد على الاستثمار فيهما لحد كبير. ثالثا: سوف يتعين على الصين تخفيض فائض حسابها الجاري في الاقتصاد العالمي، وإلا تعرضت لردود أفعال مضادة من الخارج، تتهمها بممارسة سياسات حمائية مفرطة. وإذا تمكنت الصين من تخفيض فائض حسابها الجاري، فإن ذلك سوف يصب في مصلحة الاقتصاد العالمي، كما سيساعد أيضاً الطلب المحلي. ويزيد من مداخيل الأسر الصينية. هذه مجموعة معقدة من التغييرات - يجب عليّ أن اعترف - ولكني واثق، مع ذلك، من أن القيادة الصينية ستكون قادرة على الاضطلاع بها، وهي ثقة كونتها، من خلال مشاركتي في عدد من الندوات والمناقشات المحلية في الصين، تجعلني اعتقد أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح. من المؤكد أن هناك من لديه مصالح تريد عرقلة هذه التغييرات، ولكن السمات التي مكنت المرونة الصينية من أن يكون لها هذا التأثير الإيجابي حتى الآن تتلخص في: الأفق بعيد الأمد للاقتصاد، والحزم في صنع السياسات، واتخاذ القرارات والمتابعة الدائمة لتنفيذ تلك السياسات والقرارات بواسطة أجهزة حكومية كفؤة، تنبئ في مجملها أن المستقبل سيكون جيداً. هناك بعض الاقتصاديين يرون أن ما يطلق عليه" المعجزة الألمانية" ليس في حقيقته سوى معجزة صينية، لأن التعافي الاقتصادي الدراماتيكي لألمانيا، كان نتيجة للزيادة الهائلة في صادراتها من السلع الفاخرة إلى الصين. في الحقيقة أن هذا القول ليس صحيحا تماماً. فالاقتصاد الألماني يؤدي بشكل جيد لسببين يرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا: السبب الأول هو أن القطاع التصديري في ألمانيا قد بات قوياً الآن بعد أن مر بعملية إعادة هيكلة شاملة. السبب الثاني أن الاقتصادات الصاعدة (البرازيل والهند على سبيل المثال) وليست الصين فحسب، لم تتمكن فحسب من استرداد نموها، وإنما تعمل على إدامته أيضاً، وهو ما يتيح فرصة نادرة لقطاع التصدير الألماني للاستفادة من هذا الوضع ربما أكثر من غيره من الاقتصادات، التي لا تزال متعثرة. لذلك فإن الأصح هو أن نقول إن ألمانيا قد نجحت في تحقيق معجزتها، لأنها كانت قادرة - وتملك الأدوات اللازمة- على الاستفادة من المعجزة الصينية. وفي الحقيقة أن هناك دولاً أخرى يمكنها أن تستفيد وتتعلم من المعجزة الصينية تأتي على رأسها الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة يمكن أن تتعلم من الطريقة التي يفكر فيها الصينيون بشأن تطوير الاقتصاد على المدى الطويل، ثم السعي بعد ذلك، وبطريقة براجماتية بعيدة تماماً عن الأيديولوجيا، نحو تنفيذ السياسات الموضوعة، وتحقيق الأهداف المرجوة، فمن المعروف أن إنجاز المهام في الدول الديمقراطية كالانتقال من النقطة "أ" إلى النقطة "ب".. وبناء إجماع. والاستثمار في قطاع معين، ودعم السياسات التي تديم النمو الطويل الأجل، عادة ما يكون أكثر تعقيداً في الدول الديمقراطية عنها في الدول الأخرى. لذلك، يمكن لتلك الدول أن تتعلم - من أجل التغلب على تلك العقبات من تجارب الصين في الأساس وتجربة الدول الناهضة الأخرى مثل البرازيل والهند، التي أجرت جميعها تغييرات هيكلية على اقتصادها مكنها من الاستجابة للازمة المالية العالمية بكفاءة، وتحقيق نسبة نمو مرتفعة. ومما يزيد من أهمية ذلك أن الاقتصاديات الناهضة سوف تشكل حسب التوقعات ما نسبته خمسين في المئة من حجم الاقتصاد العالمي في فترة ليست بالبعيدة. قصارى القول إننا نعيش في عالم متغير، ولم يعد بمقدورنا بالتالي أن نقف ساكنين انتظاراً للانتهاء من تلك السجالات والمناوشات السياسية، التي يبدو أنها لا تنتهي، قبل أن نتخذ قراراً أو نتبنى سياسة. وعلى الرغم من يقيني بأن الولايات المتحدة قادرة على التغيير، فإن ما يقلقني أنني لا أرى في الوقت الراهن إرادة سياسية لتحقيق ذلك. مايكل سبنس رئيس المفوضية المستقلة للنمو والتنمية التابعة للبنك الدولي وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيز"